سورة القصص - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4)}
معنى {عَلاَ} [القصص: 4] من العلو أي: استعلى، والمستعلَى عليه هم رعيته، بل علا على وزرائه والخاصة من رعيته، وعلا حتى على الله عز وجل فادَّعى الألوهية، وهذا منتهى الاستعلاء، ومنتهى الطغيان والتكبُّر، وما دامت عنده هذه الصفات وهو بشر وله هوىً فلابد أنْ يستخدمها في إذلال رعيته.
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} [القصص: 4] جمع شيعة، وهي الطائفة التي لها استقلالها الخاص، والمفروض في المُمَلَّك أنْ يُسوِّي بين رعيته، فلا تأخذ طبقة أو جماعة حظوه عن الأخرى، أما فرعون فقد جعل الناس طوائف، ثم يسلِّط بعضها على بعض، ويُسخِّر بعضها لبعض.
ولا شكَّ أن جَعْل الأمة الواحدة عدة طوائف له مَلْحظ عند الفاعل، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض، فلا تستقر بينهم الأمور، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهزّ عرشه من تحته، فيظل هو مطلوباً من الجميع.
والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الأساسي بها، ثم لما جاءها يوسف عليه السلام واستقرَّ به الأمر حتى صار على خزائنها، ثم جاء إخوته لأخْذ أقواتهم من مصر، ثم استقروا بها وتناسلوا إلا أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي.
وبالمناسبة يخطىء الكثيرون فيظنون أن القبطيَّ يعني النصراني وهذا خطأ، فالقطبي يعني المصري كجنس أساسي في مصر، لكن لما استعمرت الدولةُ الرومانية مصرَ كان مع قدوم المسيحية فأطلقوا على القبطي(مسيحي).
لكن، ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف، تستعبد كلٌّ منها الأخرى؟ قالوا: لأن بني إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة، وهم ملوك الرعاة، فلما طُرِد ملوك الرعاة من مصر كان طبيعياً فيمَنْ يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا موالين لأعدائه، ويسيرون في ركابهم، ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يُسمِّيهم فراعنة، كما في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10].
وهنا في قصة موسى عليه السلام قال أيضاً: فرعون: أما في قصة يوسف عليه السلام فلم يأْتِ ذكْر للفراعنة، إنما قال {الملك} [يوسف: 43] وهذه من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم؛ لأن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة، ولم يكُنْ للفراعنة، حيث كانوا يحكمون مصر قبله وبعده لما استردوا مُلْكهم من ملوك الرُّعاة؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال {الملك} [يوسف: 50] فلم يكُنْ للفرعون وجود في عصر يوسف.
فمعنى {سْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} [القصص: 4] يعني: تستبد طائفة الأقباط، وهم سكان مصر الأصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاءَ موالاتهم لأعدائهم.
وأول دليل على بطلان ألوهية فرعون أن يجعل أمته شِيَعاً، لأن المألوهين ينبغي أن يكونوا جميعاً عند الإله سواء؛ لذلك يقول تعالى في الحديث عن موكب النبوات: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
ذلك لأن دين الله واحد، وأوامره واحدة للجميع، فلو كنتم مُتمسِّكين بالدين الحق لجعلتُم الناس جميعاً شيعة واحدة، لا يكون لبعضهم سلطة زمنية على الآخرين، فإذا رأيت في الأمة هذه التفرقة وهذا التحزُّب فاعلم أنهم جميعاً مدينون؛ لأن الإسلام كما قُلْنا في صفائه كالماء الذي لا طعمَ له، ولا لون، ولا رائحة.
وهذا الماء يحبه الجميع ولابد لهم منه لاستبقاء حياتهم، أما أن نُلوِّن هذا الماء بما نحب، فأنت تحب البرتقال، وأنا أحب المانجو. وهذا يحب الليمون.. إلخ إذن: تدخلتْ الأهواء، وتفرَّق الدين الذي أراده الله مجتمعاً.
لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي بِضْع وستون، أو بضع وسبعون فرقة، كلُّهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي».
فشيعة الإسلام إذن واحدة، أما أن نرى على الساحة عشرات الفِرَق والشِّيَع والجماعات، فأيّها يتبع المسلم؟ إذن: ما داموا قد فرَّقوا دينهم، وكانوا شِيعاً فلسْتَ منهم في شيء.
ثم يُفسِّر الحق سبحانه هذا الاستضعاف {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} [القصص: 4] فيقول {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] وقلنا: إن الإفساد أن تأتي على الصالح بذاته فتفسده، فمن الفساد إذن قتْل الذُّكْران واستحياء النساء؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع، فقتل الذّكْران يمنع استبقاء النوع، واختار قَتْل الذكْران: لأنهم مصدر الشر بالنسبة له، أمّا النساء فلا شوكة لهُنَّ، ولا خوفَ منهن؛ لذلك اتسبقاهُنَّ للخدمة وللاستذلال.
وحين نتتبع هذه الآية نجد أنها جاءت في مواضع ثلاثة من كتاب الله، لكل منها أسلوب خاص، ففي الآية الأولى يقول تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} [البقرة: 49].
وفي موضع آخر: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} [الأعراف: 141] وهاتان الآيتان على لسان الحق تبارك وتعالى.
أما الأخرى فحكاية من الله على لسان موسى عليه السلام حين يُعدِّد نِعَم الله تعالى على بني إسرائيل، فيقول: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} [إبراهيم: 6].
فالواو في {وَيُذَبِّحُونَ} [إبراهيم: 6] لم ترد في الكلام على لسان الله تعالى، إنما وردتْ في كلام موسى؛ لأنه في موقف تَعداد نِعَم الله على قومه وقصده؛ لأن يُضخِّم نعم الله عليهم ويُذكِّرهم بكل النعم، فعطف على {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} [إبراهيم: 6] قوله {وَيُذَبِّحُونَ} [إبراهيم: 6].
لكن حين يتكَلَّم الله تعالى فلا يمتنُّ إلا بالشيء الأصيل، وهو قتْل الأولاد واستحياء النساء؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يمتنّ بالصغيرة، إنما يمتنُّ بالشيء العظيم، فتذبيح الأبناء واستحياء النساء هو نفسه سوء العذاب.
وقوله مرة {يُذَبِّحُونَ} [البقرة: 49] ومرة {يُقَتِّلُونَ} [الأعراف: 141] لأن قتل الذّكْران أخذ أكثر من صورة، فمرَّة يُذبِّحونهم ومرة يخنقونهم.
ومعنى: {يَسُومُونَكُمْ} [الأعراف: 141] من السَّوْم، وهو أنْ تطلب الماشية المرعى، فنتركها تطلبه في الخلاء، وتلتقط رزقها بنفسها لا نقدمه نحن لها، وتسمى هذه سائمة، أما التي نربطها ونُقدِّم لها غذاءها فلا تُسمَّى سائمة.
فالمعنى {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} [الاعراف: 141] يعني: يطلبون لكم سوء العذاب، وما داموا كذلك فلابد أنْ يتفنَّنوا لكم فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ}


{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)}
فلن يدوم لفرعون هذا الظلم؛ لأن الله تعالى كتب ألاّ يفلح ظَلُوم، وألاَّ يموت ظلوم، حتى ينتقم للمظلوم منه، ويُريه فيه عاقبة ظلمه، حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم، وحَسْبك من حادث بامرىء ترى حاسديه بالأمس، راحمين له اليوم.
وهنا تُطالعنا غضبة الحق تبارك وتعالى للمؤمنين {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} [القصص: 5] والمنة: عطاء مُعوّض، وبدون مجهود من معطي المنة، كأنها هِبَة من الحق سبحانه، وغضبة لأوليائه وأهل طاعته؛ لأن الحق تبارك وتعالى كما قال الإمام علي: إن الله لا يُسلِم الحق، ولكن يتركه ليبلو غَيْرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غَارَ هو عليه.
والحق تبارك وتعالى حينما يغَارُ على الذين استُضعِفوا لا يرفع عنهم الظلم فحسب، وإنما أيضاً {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5] أئمة في الدين وفي القيم، وأئمة في سياسة الأمور والملك {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5] أي: يرثون مَنْ ظلمهم، ويكونون سادةً عليهم وأئمةً لهم، فانظر على كم مرحلة تأتي غيرة الله لأهل الحق.
ولولا أن فرعون الذي قوي على المستضعفين وأذلَّهم تأبَّى على الله ورفض الانقياد لشملته رحمة الله، ولعاشَ هو ورعيته سواء؟
لذلك أهل الثورات الذين جاءوا للقضاء على أصحاب الفساد وإنصاف شعوبهم ممَّنْ ظلمهم، كان عليهم بعد أنْ يقضوا على الفساد، وبعد أن يمنعوا المفسد أن يُفسِد، ويحققوا العدالة في المجتمع، كان عليهم أنْ يضموا الجميع إلى أحضانهم ورعايتهم، ويعيش الجميع بعد تعديل الأوضاع سواسية في مجتمعهم، وبذلك نأمن الثورة المضادة.
ثم يقول تعالى استكمالاً لمِنَّته: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض}


{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)}
قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض} [القصص: 6] نعرف أن الأرض مكان يحدث فيه الحدَث، لأن كل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فالمعنى: نجعل الأرض مكاناً لممكَّن فيها، والتمكين يعني: يتصرف فيها تسلطاً، ويأخذ خيرها.
وقد شرح الحق سبحانه لنا التمكين في عدة مواضع من القرآن، ففي قصة يوسف عليه السلام: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] مكين يعني: لك عندنا مكانة ومركز ثابت لا ينالُك أحد بشيء، ومنها قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 21] يعني: أعطيناه سلطة يأخذ بها خير المكان، ثم يُصرِّف هذا الخير للآخرين.
وقوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] وهامان هو وزير فرعون، ولابد أنه كان لكل منهما جنود خاصة غير جنود الدولة عامة، كما نقول الآن: الحرس الجمهوري، والحرس الملكي، والجيش.
أو: أن هامان يصنع من باطن فرعون، فالملِك لا يزاول أموره إلا بواسطة وزرائه، وفي هذه الحالة يأخذ الجنود الأوامر من هامان. أو: أن هامان كان له سلطة ومركز قوة لا تقل أهمية عن سلطة فرعون، وربما رفع رأسه وتطاول على فرعون في قوت من الأوقات.
وقد رأينا هذا عندنا في مصر لذلك يقولون في المثل الريفي المعروف: تقول لمن يحاول خداعك(على هامان)؟ يعني: أنا لا تنطلي عليَّ هذه الحيل.
والضمير في {مِنْهُمْ} [القصص: 6] يعود على المستضعفين {مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] أي: سنريهم الشيء الذي يخافون منه، والمراد النبوءة التي جاءتهم، إما عن طريق الكهنة، أوعن طريق الرُّؤْيا، حيث رأى فرعون ناراً تأتي من بيت المقدس، وتتسلط على القِبْط في مصر، لكنها لا تؤذي بني إسرائيل، فلما عبَّروا له هذه الرؤيا قال: لابد أنه سيأتي من هذه البلد من يسلب مني مُلْكي.
ويُرْوى أنه الكهنة أخبروه أنه سيُولد في هذه السنة مولود يكون ذهاب مُلْكك على يديه.
فسوف يرى فرعون وقومه هذه المسألة بأعينهم ويباشرونها بأنفسهم، وسيقع هذا الذي يخافون منه؛ لذلك أمر فرعون بقتْل الذكْران من بني إسرائيل ليحتاط لأمره، ويُبقِي على مُلْكه، لكن هذا الاحتياط لم يُغنِ عنه شيئاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8